يسـقـط الانقـلاب
لا محالة، لأنّه من أصله دسيسـة جبـانة وعـار .. لأنه ضدّ طبيعة
الأشيـاء، .. لأنه يطغـى على حريّة الانسـان .. يطفئ بهجة
الحيـاة ذاتهـا.
فالإنقلاب العسكري ظاهرة بدائية خطرة، بل مشينة
ليست تليق
بالمجتعات
المتحضرة ، اذ
أنه
اهانة بالغة
لذكاء
الانسان الراقى
وقدراته
العقلية من حيث تحكيم
المنطق والفطرة السليمة فى معالجة
مختلف
شؤون
حياته،
بما في
ذلك التصدى
السلمي لحلول اشكالات
الحكم
والسياسة.
والانقلاب
في جوهره عدوان داخلي مسلح يرمي الى اختلاس
سلطة
الدولة السياسية
بالدرجة الاولى،
ثم فرض
سلطة دخيلة
بديلة عن طريق
الاكراه.
فالحركة
الانقلابية
تعمل، في
الواقع
،
بمثابة
غزو
أو
هجوم
مباغت من الداخل تشنه
زمرة من ضمن المؤسسة
العسكرية
القائمة
فى البـلاد،
اما توطئـة
لتحقيق
مآربها
الخاصة
أوخدمة
لأطماع
خارجية معينة
أومن
أجل
هاتين الغايتين معا.
وهي مغامرة محسوبة النتائج أصلاً
بقدر من
الدقة
قد ينقص
أو
يزيد عن الحد الاددنى
من
امكانيات
نجاحها
فى
شتى
ظروف
الاقدام
عليها.
فاذا
أخفقت
المجازفة
واختلت
حساباتها،
سُميت
باسمها
الصريح
،
"مؤامرة فاشلة"
يخرج
مدبرها خائبا
صفراليدين
مثل
مقامرخاسر. فيوصم
لتوّه
بالخيانة
والغدر والدناءة
..
والحماقة
أيضا.
ويعامل
من ثم على ذلك
الأساس.
أما
لو قدر لها
أن
تنجح فى مسعاها الى قلب نظام
الحكم
السائد
فى البلاد،
وهو
هدفها المباشر،
فإنها تسمي نفسها على الفور ..
"ثورة"
!!
إن عملية الانقلاب في حد ذاتها ليست لها أية
علاقة حقيقية بطموح الجماهير العريضة الى
تغيير
أوضاعها الراهنة
من
أجل
الترقّي الى
مستوى
حياة
أفضل،
كما
أنه يستحيل
اعتبارها انطلاقة
نابعة من
صميم رغبة الشعب
أو تجسيدا لارادته. وذلك
أن
الانقلاب،
مهما بلغت رتب القائمين
به،
ليس انتفاضة عفوية على الاطلاق، وانما
هو مجرد اجراء
تنفيذى نهـائى
لخطـّة مدروسـة
مفصلة تحاك
منذ البداية خلف
الستار
بنـاء
على توقعات واعتبارات خاصة
تخضع
فى الغالب
لتقديرالجهة
الخفيـّة
صاحبة
المصلحة الكبرى فى
صنع
الانقلاب . ويكفي
دليلا قاطعا على ثبوت نية الخديعة المبيتة
من
أول
الامرأن الشعوب
المعنية لا تدرى بوقوع
الانقلابات
داخل بلدانها
إلا عقب اذاعة البلاغ رقم 1 المعتاد في مثل هذه الحالات،
بل
ربما لا يسمح للشعب حتى بمجرد التعرف على هوية سارق السلطة إلا
بعد أن يفلت بالغنيمة ويشهر السلاح في وجوه شرطة النظام. وهذا يعني،
بمنتهى البساطة، أن الشعب يوم تقلب حكومته ويغتصب الجناة سلطته الشرعية
يبدو كالزوج المخدوع تماماً .. آخر من يعلم !!
ومما يثير
السخرية المريرة حقا أن يزعم الانقلابي المغامر فيما بعد أن المكيدة
الناجحة التي دبرها أو نُسجت له خيوطها في السر كانت من ساعتها
"انتفاضة شعبية"
أو أنها تمكنت في وقت لاحق من اكتسـاب تلك الصفة. فمثل هذا الادعاء
كاذب من أساسه، ينـاقض نفسه بنفسـه ... اذ كيف يستطيع أي شعب في
العالم أن "ينتفـض" من دون أن يشعر أو يعلم مسبقـا ً؟ وهل يمكن
لانقـلاب عسكري مفاجئ أن يتمخّض عن ثورة شاملة تعلن عنها الحكومـة
اللصـّة ذاتها عبر وسائل اعلامها، وبعد ثلاث سنوات كاملة من تاريخ
الواقعة الأصلية؟ .. وما الذي كان يحدث لو لم تكن هناك اذاعـة جاهـزة
موجّهـة لكي تحيط الشعب المنتفض علماً بثورته "الجماهيرية" ؟!
.. لو أن (ماركوني) لم يختـرع جهـازه الثوري المعروف المسموع الصوت،
فأغلب الظن أن كثيرا من الشعوب البريئة ما كانت لتغرق في مثل
هذه الموجة الطويلة من "الثورات" اللاسلكية العاتية.
لو تأمّلنا قليلاً في ماهيّة الانقلاب المدمّر الذي خرّب كل شئٍ
في وطننا وأذلّ شعبنـا ومرّغ سمعة بلادنا في التراب، فاننا نلاحظ أنه –
رغم السّمات الشّاذة الفريدة التي تميّز بها عن سـواه عمومـاً –
لم يكد يخرج في خطـوطـه العريضة عن الطبيعـة المعتـادة لمعظم الفخـاخ
والكمائـن المماثلة التي نُصبت لبعض الشعوب الأخرى السيئة الطالع في
هذا العصر الحافل بالانقلابات. ومع ذلك فان انقلابنا الخاص هذا
يبدو، في نظرنا، أمرّ وأدهـى من كل ما عداه، لأنه مسّ حيـاة شعبنـا في
الصميم واكتوى بنار حقده الأعمى الكبـار والصغار. ويكفي أن المواطن
الليبـي الذي كان يُصعق عجبـاً ودهشـة لدى مجرّد السماع عن أحزان هذا
العالم المنكود بالمآسـي لم يعد يُعيرها أي اهتمـام يُذكر منذ أن صـار
يعيشـها على الطبيعة في عقر داره. فالانقـلاب عندنا نراه رأي العين ..
تحت عباءة "الثورة" يخفي خنجر الفاشية الدامي .. يحوّل الأرض
الى شبه معسكر وسجن.
الانقـلاب يعـدّل عمـره من يـوم مولـده ويشطـب التـاريخ فيما
فـات
.. يضفـي على آمره الأمجـاد والبطولـة القديمـة. ويعمد
البطـل الجديد بدوره الى اطـلاق حفنة من الشعـارات
المستـوردة المضخّمة مثل حزمـة البالونـات الملوّنـة في
مظاهـرة صاخبـة لصرف الأنظـار بعض الوقت عن حقيقة الكارثـة
المريعـة التي جـرّ البـلاد اليهـا، حتى يلتقـط أنفاسـه
اللاهثـة التي كانت قد انحبست هلعـاً من احتمـال الفشـل
المبكّر. ثم ان نجْـم الانقـلاب هذا ما أن يتمكـن مـن
احكـام قبضتـه على جميع مرافـق الدولة ومقدّرات الشعب، ويعبّـئ
السجـون بالمواطنيـن، حتى يستغـني شيئـاً فشيئـاً عن
كلّ التأييـد الطوعـي الذي كان يستجـديـه في
أيامه الأولى. فيصبح بالتدريج قادراً على فرض سيطرته المطلقة
بحكـم القـوّة وحدهـا، اذ يمسك باحدى يديه زمام السلطة،
وبالأخرى خزائـن الثـروة، ويمضي في طريقه المسدود
حاملاً في جيبه مفتاح مخزن السلاح والذخيرة. |
ويبدأ
من هنا مسلسل الرعب الذي لا ينتهي الا بموت بطل الخرافة.
فالفصل الأول منه يحكي مصرع الحرية الأسيرة .. وتذبح الديمقراطية التي
منها يخاف البطل الهمام في وضح النهار. في المشهد الثاني تصادر الأرزاق
كيّ يعمّ الفقر باسم العدل. ثم في ختام الحلقة الأخيرة، تختلط
الأوراق كلها، تنكشف الحيلة، يتعرّى اللاعبون، يفلت الزمام. فيهرب
المخرج والمشـاهد المأجـور، لأن أحدا لا يستطيع أن ينتظـر النهايـة
المفجعة الفاضحة المحتومة .. سـقـوط الانـقـلاب !!
فكفـى هذا، ولا داعي للإفاضة. فشعبنـا ليس بحاجة الى من يعيد سـرد
مأسـاته بأي كلام، أو يدعوه مرّة أخرى الى اجتـرار الصبـر وحـده
والصمت. بل أن اللغة نفسها تكـاد تقف عاجزة تماماً عن التعبير عمـّا
جرى وما يُرتكب في حقّ هذا الشعب المعذّب. فلتوضـع النقاط على الحروف،
ولتحدّد المواقف، وعلى الباغـي تـدور الدوائـر.
ان المواطـن الليبـي اليوم احـوج ما يكون إلى تذكيـره بماضيه القريب،
واستعراض قضيّـته الحاضرة بكامل الصـدق والأمانـة في مكاشفـة صريحـة،
بحيث يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فلنتلمّس معاً مواطن الخطأ
والصواب في تجربتنـا الديمقراطيـة الوحيـدة التي عشناها خلال
الاستقلال حتى عام 1969م. وان تسليط بعض الضـوء على تلك الفتـرة
بالذات قد يُغني عن عقـد أية مقارنات مفصّلة بعهد الفوضـى التي
تلتها لغاية الآن، وربما يُسهم في انارة الطريق نحو المستقبل الأمثل.
فلنعد الى معالم مسح الطريق أولاً. ما دامت النتيجة المتوقعة لأي
انقلاب، كما شهدناها بأنفسنا عن كثب، هي أن تنقلب الأوضاع والمعايير في
البلاد رأساً على عقب ويبدأ التراجع الحثيث من سئ إلى أسـوأ،
فهل هناك أي وسيلة للخلاص غير نسف الانقلاب من أساسه وقطـع الطريق
على أمثاله إلى الأبـد؟!.. واذا كان وضع البلاد قبل الانقلاب
صحيحاً أصلاً، أو كان على الأقل أفضل مما أصبح عليه بعده، أفليس
الحل المنطقـي والمخرج الوحـيد من المأزق هو انهاء
الحالة الانقلابية برمّتها، ثم اجراء كل التصحيح والتغيير الذي يريده
الشعب في جوّ آمن هادئ خالٍ من التشنجات والضجيج؟.. ان المشروعيـة
الدستـورية هي بالتأكيد خير ضمـان لاعـادة خلق المنـاخ الديمقـراطي
كبيئـة طبيعيـة تزهر فيها الحرية للجميع، وينمو الوعي والفكر
بلا قيود، فيما تدور عجلة التقدم الحقيقي نحو الأمام حتى
نسرع في قطع قفـار التأخر الذي أدى بنـا اليه هذا الزحف الانقلابي
المخيف في اندفاعه الجنوني الى الوراء عبر ما يقرب من ثلاثة
عشر عاماً. وعندئذ فقط نشرع في مسيرة المستقبل، ونستطيع أن نواكب
الحضارة، ونصنع الرّقي بالانسان .. حتى خارج الاذاعة!!
فالخطـوة الأولى
أمامنا ازاحـة حكم الأبواق الهزلي، ومحـو العار الثقافي
الذي ألحقه بشعب ليبيا كله، وتمزيق القناع الزائف الذي غشى وجـه
البلاد منذ انبعـاث سلالة التـتار. وهنا نريد قبل كل شئ أن نخرج
من اطار الصورة القبيحة المشوّهة، لنعود بالذهن إلى الأصـل
المضئ.
فكيف كان الحال في بلادنا أثناء الاستقلال .. ثم منذ الانقلاب ؟؟
ان صيغة الديمقراطية السياسية الناضجة التي تضمّنها الدستور
الليبي على اثر الاستقلال كانت جديدة كلّ الجدّة بالنسبة الى
شعبنا الذي عاش طيلة تاريخه السابق في حالة صراع دائم من أجل
البقاء فقط. |
فكانت تلك التجربة الديمقراطية الحديثة العهد عندنا أشبه بلعبة
معقّدة دقيقة التركيب في يد طفل صغير: يرنو اليها بحذر في أوّل
الأمر، ثم يعمد الى تفكيكها والعبث بها على نحو متواصل حتى
يفسدها في النهاية ويقف عاجزاً عن اصلاحها بنفسه. فيشرع في الصراخ
مطالباً بغيرها، الى أن يعثر على ضالّته في الدكان المجاور لبيته.
وتستهويه اللعبة الأخرى المقلّدة، رغم اختلافها الواضح عن لعبته
الجيّدة الأصلية، فلا يكفّ عن التطلّع إليها حتى ينالها .. ولو كانت
بضاعة مسروقة!.. ويفرح بها في البداية غير عابئ بما تنطوي عليه من
مخاطرالسياسة المستوردة بحذافيرها. فكلنا لم نكن نفهم معنى المستجير
من الرمضاء بالنار !
ولا أحد يملك أن يقول أن الخطأ كان في صلب النظام الديمقراطي ذاته.
فمما لا شك فيه أن جميع مَواطن الزّلل الحقيقية والوهمية على
السّواء كانت اما نتيجة للتطبيق غير الصحيح أحياناً أو وليدة
للشائعات الرائجة ضد النظام في بعض الأوساط آنذاك، والتي
ترسّبت في أذهان الكثيرين عن طريق التكرار وحده. فلقد كانت المشكلة
الأساسية سوء الفهم وعدم استيعاب العملية الديمقراطية بالكامل. واذا
كان الاعتراف بالذنب فضيلة، فلنقرّ أولاً بأن جهلنا المريع هو
الذي جنى علينا .. وما جنينا على أحد!
فنحـن كمواطنيـن
لم نكن ندري على وجـه الضبـط مدى حقوقنـا، ولا حـدود
حرّيتنـا، ولا نِطـاق واجباتنـا بوصفنـا أفرادا
وجماعـات يضمّهـا وطـن حـرّ ودولـة. |
فوجئ المواطن الليبي بأن صوته الذي كان على الدوام مخنوقاً
ومبحوحاً بدت له هيبة ورنّة غير مألوفة يوم رجاه الدستور
أن يدلي برأيه المستقلّ لاختيار من يريد تفويضه للدفاع عن حقوقه
التي جدّت عليه وممارسة الرّقابة على الحكومة التي كُلفت
بخدمته بعد أن كان لا يمارس سوى خدمة الحكومة! ..
فاستنتج المواطن الداهية أن صوته الخاص لم يعد يخلو من الأهمية مثل
سابق عهده بل صارت له قيمة أيضاً. ولم تكن تعنيه كثيرا كلمة
"الديمقراطية" الغربية على أذنه لفظاً ومعنى. فلما استفسر عن أصلها
وفصلها، قيل له أنها مجرّد تعبير اخترعه الاغريق القدماء لاستعمالهم
الشخصي ثم ليضحكوا به على أمثاله. وقرأ في كتاب التاريخ أيضاً أن نفس
هؤلاء الاغريق كانوا احتلّوا أجزاء من بلاده واستوطنوها في عصور سابقة.
فأي خير يُرجى من لفظة ثقيلة على اللسان موروثة عن استعمار؟ .. ولماذا
لا يستفيد المواطن الحرّ المستقلّ من هذه "الديمقراطية" على نحـو ملموس
.. ولو من باب النكاية في مستعمريه الاغريق القدامى؟!
في جوٍّ من الفقر المدقع والسّذاجـة السيـاسيّة الواضحة،
لم يكن يملك غير صوته الجديد. فجرّب عرضه للبيع في سوق الانتخابات
العامة. ونجحت التجربة على الفور، غير أنها غدت له سابقة مُعيبة.
فسُرعان ما أدرك بالفطرة أن من يبيـع صوتـه الحـرّ يفـقـد الحـق
المطلـق في استعمـاله بنفس الحريـة مرّة أخرى. وبنفس المنطق
البسيط فطن الى أنه لا يستطيع أن يلوم المُشتري اذا سعى الى استرداد
النفقات التي تكبّدها في بورصة الانتخابات. فالمرشّحون ما كانوا
يسرقون أصوات مواطنيهم عنوة ولا كانوا يحصلون عليها بطريق العنف
والابتزاز، وانما كان الناخبون أنفسهم هم الذين يتاجرون بأهم
حقـوقـهم الدستـورية طوعاًَ في سوق حرّة. فكيف يمكن لأحد أن يتوقع
من نائب يصل إلى مجلس الأمة أو غيره على هذا النحو المشين أن يرعى
مصالح ناخبيه والمواطنين عموماً من قبل أن يهتم بمنفعته
الخاصة الى حين تعويض بعض خسائره على الأقل ؟!
ان العيب اذن، ليـس في أسـاس فكرة الانتخـابات العامة والمجالـس
النيابيـة
وغيرها من المؤسسات الديمقراطية. وليس ثمّة أي مأخذ اطلاقـاً قيما
يتعلق بروح الدستـور أو نصّه من هذه النواحي بالذات. فصفقات
البيع والشراء التي كانت تعقد أحياناً في تلك الأيام لا يمكن أن تعتبر
مثـار طعن في سلامـة جوهر الاجراءات الديمقراطية المنصوص عليها في
دستـور الـبلاد، ولم تكن قاعـدة بل استثنـاء نادر الحدوث
على كل حال. ومهما يكن من أمـر، فان البرلمان طـوال عهـد الاستقـلال
كان دائماً يضمّ رجالاً من خيرة أبنـاء الوطـن المخلصيـن ومن
أكثرهم نزاهة واستقامة وجدّيّة في خدمة المصلحة العامة بالمعنى الحقيقي
للكلمة. ولم يكن قطّ مجرّد قاعة تردّد الصدى وكراسيّ مرقّمة !!
قال صـاحب الانقـلاب ذات مرّة للشعب الليبي عن طريق الاذاعة أن
كلمة "الديمقـراطية" هي كلمة معرّبة من كلمة يونانية تنطق "ديموكـراسي"
وأنها لابد أن تكون مشتقّة في الأصل من "ديمومة الكراسي" ! ..
وكان المغزى العميق الذي فهمه الجميع بمجرّد الاشارة أن تلك الكراسي
"الدائمة" لا تعنى سوى كرسي الحكم الوثير وبعض المقاعد
المصفوفة فيما يسمّى بـ "مؤتمر الشعب العام" حيث تدور كل عام مجموعة من
الأصفـار والأرقام والألواح الصّمـاء في حلقة الدجل
الذي لم ينقطع من يوم جاء الانقلاب. ولا عجب، فان العوامل
العديدة المتشعّبة التي لعبت دورها في تفسّخ الحياة السياسية وتشويه
صورة الحكم النيـابي في أذهـان عامة الناس، وجعلها موضع سخـرية وتندّر
رخيص في أفواه الجهلة والأدعياء، هي نفسها التي أفسحت المجال
لانقضاض الفاشـية الانقلابيـة على سلطة المؤسسـات الدستورية
الشرعيّة في البلاد ومسخها الى هذا الحدّ حتى كاد مجرّد الحديث
عنها يشبه الألغاز أو الكلام بلغة مندثرة لم يعد يفهمها سوى تلك القلّة
التي لم تتأثر بهراء الحواة الجدد من فلاسفة الانقلاب
أو التي لم تتعرض لغسيل المخّ أو لم تقرأ التاريخ بالمقلوب في معاهد
ترسيخ الأميّة !
ان أول وآخـر
دولة ليبيـة حقيقيـة قامت في تاريـخ بلادنـا حتى هذه
اللحظـة هي تلك التي أعلن استقـلالها على يد السـيد محمد
ادريـس المهـدي السنـوسـي في عام 1951، والتي اعترف
بها المجتمع الدولي كله اعترافـاً شـرعيـاً كاملاً،
وليس اعترافـاً بأمرٍ واقـع فرضتـه ظروف طارئـة .. مثل
مجـرّد انقـلاب عسكري قد يتهدّده انقلاب مضـادّ ! ..
والدولـة الليبيـة لم تخلـق من العدم ولا نشـأت من فراغ، بل
نهضت على أكتـاف عدد من أبنـاء الوطن حرصوا على استقـلاله لأنهم
ذاقـوا مرارة عهـد الاستعمـار وهـوان الاستعبـاد من قبل. فقدمـوا
للـيبيـا المستقـلـّة كل ما يملكـون ومنحـوا شعبهـم أقصـى
ما يقـدرون عليـه من عطـاء. ولا يكلّف الله نفساً إلا وسعها. |
ولكن هل كانت الفترة الممتدّة من بداية الاستقلال الى يوم الانقلاب
خاليـة تماماً من مظاهر الفسـاد وأسبـاب التذمّر؟ .. أبداً، على
الاطلاق ! فلقد كانت غطرسـة أصحـاب النفوذ من ذوي العصبيـة
القبليـة بالذات، وتبجّحهم الفارغ بأنهم هم وحدهم الذين ضحّوا في
سبيـل حريّة البلاد واستقـلالها، وتعاليهم على الغير من ذلك المنطلق
الضيّق، فضلاً عن اثارة الخصومـات الصغيرة فيما بينهم والتنافس الشديد
على المناصب من أجل خلق مراكز للقوى واستغلال النفوذ داخل أجهزة
الدولة ومؤسساتها، والمحاباة الواضحة التي كانوا يبدونها على
جميع المستويات – كل تلك الممارسات وغيرها من أعراض الجهل وضيـق
الأفـق كانت مدعاة للنفـور لدى غالبيّـة الشعب، ولا سيّـما
بين الأوسـاط الواعية اجتماعيّاً وسياسيّاً.
وكان هنالك أيضاً تحـوّل المجتمع التقليدي البسيط شبـه
البدائـي الى مجتمع نفطي هائل الثـراء عبر طفرة حضارية
مفاجئة لم يكن مهيّـأ لها، فأربكت حياته، وقلبت مفاهيمه،
وغيّرت أساليب معيشته وتفكيره التي اعتاد عليها منذ مئات السنين. أضف
الى ذلك توسّـع أطمـاع السماسرة المحليـّين والغربـاء كطبقة
طفيليـة تضخّمت كثيراً على اثر اكتشـاف البتـرول ونمـوّ انتـاجه
وثروة البلاد. فظهرت من ثمّ فئة قليلة مرفّهة من محـدثي النعمة أخذت
تتصرّف مثل أغنيـاء الحرب في بذخـها واسـرافها المفرط فيما كانت
الأغلبية العظمى من الليبييـن لا تزال تعاني تحت وطأة البؤس والفقر
وتخلّف القرون الطويلة.
وكان عندنا، ومازال، المثقفـون الانتهـازيون والمفكرون
بدماغ السلطة الرسمية. فلكل عهد دولة ورجال. ويأتي
الانقلاب بغتة على أسنّة الرماح، حاملا انجيله المزيّف
الجديد. يلتفّ حوله الوصوليّـون وحدهم والأغبيـاء حتى قبل أن يتبيّـنوا
خطورة الطريق الأعوج الوعر، ويلقى رجالا لكل الفصـول.
فشـبه عالم هنا ونصف جاهـل هناك يتقـابلان في منتصف
الطريق، يقسمـان دنيا الله كلها الى نصفيـن: واحد يعجبهمـا
فيمنحانه شهـادة البـراءة "الثـورية" المزوّرة، وآخر لا يرضيان
عنه يستحـقّ الموت!.. وكان عندنا الكتّـاب والسـاسة ورجال الأدب
الأحرار والشـرفاء دائمـا في الجانب المشرق والمضئ ، في حين أن
الأجراء والأوغـاد يقبعون اليوم كالعادة في الركن المقابل الذي
يلفّه الظلام .. ويغنّـون لمن لا عقل له !
كان عندنا الطيّـب والخبيـث مثل أي شعب من شعـوب الأرض.
وخلاصة الكلام، فقد كانت بلادنا تغصّ بجميع متناقضـات العصر،
لكن لم تكن الأمور سقيمة ولا جميع أولي الأمر سيّـئين
بالضرورة. ثم جاء الانقلاب، ولم يكن يحمل في طيّاته سوى بذور
الشرّ والهلاك والخراب. فقـوّض الدولة من أساسهـا،
ومسخر الرجال، وهدّم الأسواق والأخلاق، فيما دعّم السّـفالة
وشجّع الحقـارة ورعى سائر ألوان الفسـاد السّياسي
والاقتصادي والاجتماعي حتى تجاوز الحدّ الضروري لاستهلاكه بالذّات ..
فاستـورد أيضاً أردأ الأصناف من كماليّاته، وصدّر الزائد عن
حاجته. وكل اناء بالذي فيه ينضح !!
لم تكن بلادنا في عهد الاستقـلال تعرف المرتزقـة، ولا
حكومة يحمي وجودهـا الأغـراب ضد الشعب. ولم يكن جيشنا الوطني
قطّ خاضعاً لأوامر "الخبراء" من رجال الشرطة السريّـة
المستـوردين خصّيصاً لدعم السلطة الفعلية المخبـوءة، وهم
يحمـون قائـده الأعلى من "سلطة الشعب" .. يخطّطون لتأمين
الدفـاع عنه خشية من انتفاضة جيشه نفسه. والدليل في الماضي وفي
المستقبل القريب أنه ما كان ثمّـة أجنبي واحد مـات دفـاعاً عن
شرعيـة الحكم عندما قام الانقلاب بالهجوم عليها، ثم أن أي وطنيّ
خالص الولاء للشعب وللبـلاد لن يطيع هؤلاء الخبراء "المستشـارين"
الأجانب يوم يسقط الانقلاب .. لأن شعبنا ليس يطيق حكم
الانقلاب في بلاده، ولا أعوانه المحلّيين والغرباء.
ان رجال الدولـة الليبيـة والسّـاسة والشيـوخ والنوّاب، وكل من
شاركوا في حكم البلاد بشكل مبـاشر أو غير مبـاشر، أيام الاستقلال
لم يكونوا قادمين من كوكب آخر أو مخلوقين من طينة خاصّـة.
ولا أحد منهم، على حدّ علمنا، ادّعى لنفسه أية قدرات خـارقة
أو مواهب استثنـائية يتميّز بها عن غيره من الليبيين. فهم
ليسـوا أسوأ ولا أفضل من بقيّة مواطنيهم الا بقدر ما أسـاءوا عن
تعنّت أو بدون قصد أو أحسنـوا التصـرّف في ادارة شـؤون الدولة
وخدمة البلاد والمواطنين. ولعلّ أكثـرهم لم يكن يفـوق مستـوى
المواطن العادي من حيث قلّة فهم العملية الديمقراطية
أسـاسا ومعرفة أساليب تطبيقهـا على النحو الصحيح. فأغلب
الأخطـاء التي ارتكبت في ذلك الوقت يمكن أن يقع فيها أي ليبيّ
بمنتهى السهولة لو أحاطت به نفس الظروف والملابسات،
أو سنحت له الفرصة، أو أدارت رأسه نشـوة السلطة والنفوذ. فدعونا لا
نخدع أنفسنا أكثر مما ينبغي !!.. ثمّ ان كل تلك الأخطـاء تبدو الآن،
بالقيـاس إلى جرائم الانقلاب الحاضر ومخازيه، كمجـرّد هفوات بسيطة صدرت
عن شبه قدّيسـين.
كان الملك، باعتباره رمزاً لسيادة الشعب الدستـوريّة
فقط، يملك السلطة اسميّـاً ولا يحكم فعلاً الا في حدود الدستـور
الضيّـقة. فهو، وفقاً لنصّ الدستـور نفسه، غير مسؤول. وانما
يتولّى سلطته بواسطة وزرائه، وهم المسـؤولون، بمعنى أن
المسـؤوليّة بأكملها تقع على عاتق الوزراء. وكان الملك ينبّـه
الى الممارسات الخاطئة، ويوجّه الى الصواب، ولا يرى
اعوجاجـاً الاّ حاول تقويمه. ويبدو أنه كان، في كثير من الأحيـان،
كمن ينفخ في قربة مقطوعة !.. ولكن لم يكن بوسعه
أن يفعل أكثر من تنحية مصادر الافسـاد والأخطـاء عن
منافذ السلطة، واستبدال مسؤول بآخر عسـاه يكون أصلح من سابقه.
وكلّهم ليبيـون مثلكم جميعـاً !
وعلى أي حال فقد كان للبلاد دائماً برلمان منتخب من جانب
المواطنين أنفسهم، وكل عضو فيه يمثّل الشعب كله وليس ناخبيه وحدهم
بموجب الدستور. وكان مجلس الأمة هذا هو الوصيّ الحقيقي على
مصالح المواطنين، فيما كان ملك البلاد مقيّداً بحدود
صلاحياته الدستورية لا يملك الخروج عليها أو تجاوزها الا في
الحالات القليلة التي كان يستعمل فيها هيبتـه الشخصية وحدها
بمثابة ربّ اسرة لم تكن تخلو من بعض مظاهر النفور بين
أفرادها وتنازع الأطماع والأهواء الموروثة والمكتسبـة في آن
واحد.
ونرى اليوم بالمقابل حاكم الانقلاب الفرد الذي يعدّ مسـؤولاً
بالدرجـة الأولى عن كل كبيرة وصغيرة تحدث في بلادنا، مهما كانت
الذرائع التي يتوسّـل بها للتنصّـل من هذه المسـؤولية
الرهيبة أو محاولة الصـاقها بالغير من أتباعه ولجانه ومرؤوسيه.
واذا كانت الحكومة الآن ملغاة بحكم سلطة الانقلاب المطلقة،
فانها في الواقع لاغـية منذ حصول السّـطـو لافتقارها الى
تفويض الشعب وخلوّها من النظام والشـرعيّة وخروجها عن
القانون !..
هل يكفي مثلان فقط
؟.. يقول الدستـور الليبي المكتوب أن الملك هو الذي
"يعلن الحرب ويعقد الصّلح ويبرم المعاهدات ويصدّق عليها مجلس الأمة".
أمّا في عرف الانقلاب غير المدوّن فان "سلطان"
المعسكر الأكبر يشعل الحروب وحده ويعـتدي على الجيـران
ويعقّد الأمور كلها مع القريب والبعيد، ويلوي عنق المعاهدات حسبما
يشاء، ويخمد الرغبة في الصلح وفي االسلام من تلقاء نفسه دون الرجوع الى
أحد !.. وفي مادة دستـورية أخرى أنه "لا ينفّذ حكم الاعدام
الصادر عن أية محكمة ليبية الا بموافقة الملك". ولم يحدث على حدّ
علمنا طوال عهد الاستقلال، أن وافق الملك على تنفيذ أي حكم من
هذا القبيل الا في حالة واحـدة تتعلق بأحد أبناء الأسرة
السنوسيـة نفسها .. بل بواحد من أقرب الناس الى الملك شخصياً
!!.. واليوم لا يصدر حكم الموت الا بمعرفة مدير الانقلاب
أو بايعـاز منه شخصياً في هذا العهد الارهابي الأسود المتعطّش
للدماء.
كلنا نعرف أن الانقلاب منذ قيامه لم يدّخر جهدا في محاولة
تجريح الأسرة السنوسية بالذات الى جانب ما أسماه "العهد المباد".
فالمحكمة الصّـورية التي شكّلها الانقلابيّـون في بداية عهدهم
الآيل للسقوط، والتي عرضوا بعض جلساتها على الشعب المخدوع من
خلال اذاعتهم "المرئيـّة"، لفّـقت للعشـرات من شخصيّـات عهد الاستقلال
البارزة والمغمورة على السّـواء تهماً عديدة منها "افساد الحياة
السياسية، والادارية، والمالية" وهلم جـرّا ... كما أطلقت عليهم
رئيسها البائس ومدّعيها العام يتهجّمان على الجميع بصورة
هستيـرية بذيئـة ووقحـة، أصابت معظم الشهود والمشاهدين
بالتقـزّز، فيما جعلت أجهزة التلفزيون نفسها تتصبّب عرقاً تحت
وطأة الشعور بالعار. ثم جاءت نتيجة تلك المحاكمات الهزليّة على عكس
ما كانت تريده سلطة الانقلاب، حيث انقلب السّـحر على الساحر،
فلاحظ الشعب الليبي كلّه مدى تفاهة الانقلابيين حين يحاولون أن
يتحدّثوا بلغة المنطق والقانون في غياب البندقيّـة، وأدرك الشعب
أيضاً كم كان مخطئاً في حق الكثيرين من أولئك الرجال الشجعان الماثلين
أمامه في قفص اتهام الانقلاب، والذين تعوّد أن يسئ الظن بهم في السابق
دون سبب واضح !.. فالحقيقة أن الأخطاء التي حدثت من جانب البعض أثناء
عهد الاستقلال كانت قد جعلت معظم المرتبطين بأجهزة الدولة ومؤسساتها
على العموم موضع ريبة في نظر عامّة الناس.
ونحن لسنا في معرض الدفاع عن أي انسان أو نفي التهمة عمّن أخطأ أو أساء
في ذلك العهد أو غيره.
فشهادات الفعال أعدل من شهادات الرجال. ويبقى الحكم في نهاية المطاف
للتاريخ وحده وللأيام تكشف كل الحقائق والأسرار وتفرز الغثّ من السمين
حتى لا يؤخذ أي امرئ بجريرة سواه. ونكتفي فقط بالاشارة الى أن أحدا من
ولاة الأمور أيام ما يسمّى في لغة الانقلابيين بـ "العهد البائد"
لم يحرّض على "ابادة" أي مواطن ليبي أو القاء جثـّته في عرض
البحر !!..
لكننا لابدّ أن نسجّل هنا، بكل ثقة وفخر، أننا نربأ باسم
السيد محمد ادريـس المهدي السنوسـي عن أن يقحم في
مهاتـرات اذاعة الانقـلاب وصحفـه الصفـراء أو أن يصبح
مضغـة في أفـواه هؤلاء الانقلابيـين وأتباعهم. فلتخـرس
الأبـواق، ولتكفّ الأصوات الحاقدة عن فحيحـها المسـموم.
ان شخص الملك ادريـس السـنوسي بالذات أرفع وأسمـى من أن
يحاولـوا التعرّض له بأي سـوء على الاطـلاق، لأن نزاهـة
هذا الرجـل ونبلـه وما يتحـلّى به من رقيّ الفكـر
وعـفّـة القلب واليـد واللـسان صفـات معروفة عنه جيّدا لدى
الجميع، فليس يرقـى اليها الشـكّ من قريـب أو بعيد. ولا نظـن
أحدا من الليبيـين الذين شهـدوا مرحلة الاستقـلال أو سمعوا عنها
قـول صـدق يستطيـع أن ينكر فضل الملك أو أن يذكـره الا
بالخيـر والاعتـراف بدوره العظيـم في تحقيـق وحـدة لـيـبـيا
واستـقـلالـها وحريـة شـعـبها .. من قبل أن يولد في ضمير
الغيب شبـح الانقـلاب ! وعلى الليبيـين ألاّ ينسـوا لحظة
واحدة أنهم هم الذين نصّـبوه ملكـاً على بلادهـم
وبايعـوه على ذلك طواعيـة وجهـارا على مرأى ومسمـع من
العالم كله. فالسـيد ادريـس لم يفـرض نفسـه على ليبيا عن
طريق انقلاب أو بواسطة "فـورة" من داخـل ثكـنة عسكرية
!! |
فكيـف حـالـكـم الـيـوم،
بعد أن عادت ليـبـيا شبـه مستعمـرة للفـاشـست الجدد؟.. وقد تسلط
عليها حكم الانقلاب يعاملها بمثابة البقرة الحلوب فقط، وكأنما
استولى عليها فاتحاً ضمن متاع المزرعة، يلهب جسدها بالسوط بينما
يستـنزف خيـراتها لصالح الطغمة الحاكمة وحدها وللانفاق على
مغامراته الخارجية الواسعة النطاق. وهو يحيط نفسـه بشبـكات من
أجهـزة القمـع والارهـاب المحلية والأجنبيـة لحمايتـه من سخط
الشعب وقواته المسـلّحة قبـل غيـرها. فالانقلاب الحاكم لا
يفارقه ظل البندقيّـة، ولا ينـام الا بعيـن واحدة، فيما
تسيطر عليه حالة من الرعب الدائـم ويعتـريه الذعر من أن ما سـرقه
بالقـوّة قد يستردّ بقـوة أكبـر في غـمـضـة عـين !.. وفي هذيانه
المحموم يمضي الحكم الفاشي المتهالك الى اطلاق تسميات مستهلكة على جميع
منابع النقمـة الشـعبيـة ومصادر الخطر الداهم المحدق به من كل
جانب، حيث يلقي الكلام على عواهنه من دون ان يفقه معناه أو يفهم
مضامينه الحقيقية، فيصف الغالبية الساحقة من الشعب الليبي بعبارات مثل
"البرجوازية، والرجعية، والقوى المضادة للثورة الطليعية"! ... الى آخر
تلك التشكيـلة المذهلة من التعبيـرات الراقصـة التي لم
تعد تعني شيئـاً حتى في رؤوس قائليها، بعد أن ابتُـذلت حتى الموت في
دار الاذاعـة !!
نحن ندعـو الى محاربـة الفاشسيتـة
التي أطلت برأسهـا البشـع في ليبيا مرة أخرى بمجـرّد أن استبدلت
لون قمصانهـا الشهيـر وطلعت علينـا متنكّرة في زيّهـا الأخضـر
الجديـد. وان هذا لـيس وقت الاصرار على الخوض في تفاصيل
الحلم الديمقـراطـي الذي يتصـوّره كل منّـا لمستقبـل لـيـبـيا.
فمحاولـة الاتفـاق الكامل على الصيغـة الديمقراطيـة
المثلى لحكـم الشعب الليبي كشـرط يسبـق اسقـاط
الدكتـاتـورية الفاشيّـة الخانقـة في أرض الوطـن ذاتـه، هي
بمثابـة وضع العربة أمام الحصـان !.. وذلك أن كل يوم
يضيـع في أي حوار بيزنطي أو جدل عقيـم انما يضاف الى عمر
الحكـم الطفيلـي الحالي الذي عاش حتى الآن فترة أطـول مما
ينبغـي بكثيـر. ولا شـك أن الانقلاب مدين بطول بقائه
لتشتّـت جهـود المعارضـة الوطنيـة في المقـام الأول. |
واذا كنا، نحن الليبيـين، نتسلّى بالفرجـة على ممارسـات الديمقراطيـة
الغريبـة عنّا وننبهر بها، أو نعيش أحيانا في جوّ من الحرية النسبيـة
في بـلاد الغيـر، فانها تبقى ديمقراطية شـريدة وحـريّة
مسـروقة طالما كنا مشـرّدين هكذا وحرية شعبنا سليبـة
وكرامـة المواطـن مستبـاحة للأوغـاد.
فمن المخجل حقّـاً أن يتشـدّق أي ليبـي حرّ بمفاهيـم الديمقراطيـة
الدستـورية بعيدا عن أرضـه، ولا يحرّك سـاكناً في سبيـل اعادتهـا الى
بـلاده،
وهو يعرف جيّدا أنه لوكان داخل الحدود –بل حتى بين جـدران بيتـه
الأربعـة- لا يستطـيع أن يتفـوّه بكلمـة واحدة تشـذّ عن قامـوس
لغـة السجـّان. ومثل هذا المواطن "الديمقراطي" في الهواء الطلق
يدرك أيضاً أنه ربما "يتطوّع" بانكار كل آرائه وأفكاره
"الحرة" علناً اذا ما أصيب بالهلع الكافي تحت وطأة الخوف من
الارهاب .. حتى خارج الوطن!.. فالأجدر بنا أن نعمل جميعـاً على
الاسـراع بتحـرير بلادنـا أولاً، لنعـيد بنـاء الدولة
الديمقـراطيـة الحـرّة هناك على أرض الواقع الليبـي .. في
بلادنـا وبين مواطنيـنا، وليس تحت مظلاّت الأمن الخياليّـة.
وكفانا هـراء !!
وليـس مطلوبـاً منّـا أن نبـدأ من الصفـر.
فلدينا أساس الدولة الديمقراطية راسخـاً مثبـّتـاً في ثنـايـا
دسـتور الاستـقلال منذ ثلاثـيـن عامـاً. والدستور ليـس
كـلاماً منزّلاً من السمـاء على أي حال، وانما هو مجرّد
وضعيّة تتضمّن مجموعة من المبـادئ الأسـاسيـة والقواعـد
العامّة التي تتناول تنظيم العلاقـة بين الدولـة
والمواطـنـين اجمالاً قبل تفصيلها بالقوانـين والتشـريعـات.
فهو قابـل لاعـادة النظـر، والتعديل والتصرّف فيه على أي نحـو قد
يراه الشعب الليبـي متلائمـاً مع متغيّـرات الظـروف وتطـوّرات
العـصر وتجـارب الأمـم الأخـرى، بحيث يضمن للمواطن الوصول
الى أقصـى درجـات الحريـة المسـؤولة. فما الذي يمكن أن
يمنعنـا من اتخاذ هذا الدستـور الآن بمثابة مطيـّة
مريحـة نقطع بها مسـافة طريق العـودة الى الوضـع الطبيـعي في
بلادنا، ثم نفرشـه كبساط مألوف لدينا ويسـعنا جميعـاً،
فنستريح عليه بعض الوقت فيما نطرحه للبحث فيما بيننا حتى نفرغ من
اعادة نسـج خيوطـه القديمـة أو نقرر معـاً استبـداله بغيـره
؟ ! |
فحكـم الانقـلاب
القائم حاليّاً لا يعدو كونه حادثة عارضة مثل قطـرة صغيـرة في
محيط التاريخ الليبي العريض الحافل بالأزمات والأحداث المؤسفة والقصص
الحزينة. أما الدولة الليبيـة المستقلـة فانها لم تفقد ايّاً من
مقوّماتها الأسـاسية في غربتها المؤقّـتة. رئيـسها الأعلى، بحكـم
الدستـور، حـيّ يُـرزق متمتّعـاً بكامل صحّـته وتوقّـد
ذهنـه وان تقدّمت به السـنّ. وشعبيّـته الهائلـة في ليبيا لا
يتطـرّق اليها أدنـى شـكّ، كما أن مكانتـه الدوليّـة والهيبـة
الخاصـة التي يحظـى بها لدى مختلف الأوسـاط السياسيـة في العالم
تُعتبـران شرفـاً عظيمـاً وموضع فخـر لكل ليبي غيور على سمعة
بلاده ومواطنيـه. والاعتـراف بكيـان الدولـة ثابت ضمنـاً، لأنها
هي نفس الدولة الليبيـة الدستوريـة الشرعيـة المعترف بسيـادتها منذ
أكثـر من ربع قرن. والشعب الليبـي المضطهد في بلاده، المطارد في
خارجها، قد تلقّـى درسـاً قاسيـاً من جرّاء تفريطـه القديـم
في حقوقـه وحرياتـه التي صانهـا له الدستـور. وليس ثمّة ما يدعو
الى الاعتقاد بأنه لن يرحّب بعودة حكم الشرعية والقانون والنظام
والعقل السليم الى بلاده، كما أنه من غير المحتمل أن يرتكب نفس الغلطة
مرة أخرى فيترك الحبل على الغارب لأي فرد أو جماعة تحاول أن تسرق
حرّيته أو تستهين بحقّـه في ممارسة الرقابة الصارمة على أجهزة
الحكم. فقد تعلّم الليبيون أن من جعل نفسه عظمة أكلتـه الكـلاب !!
فلنرجع بالذاكرة الى دستور البلاد الذي رافق عهد الاستقلال،
لكي نتبين مواقع أقدامنا وطريق السير. فالدستـور الليبي الذي صدر
بتـاريخ 7 اكتوبر 1951 (وهو نفس تاريخ الاعلان عن تأسيس الاتحاد
الدستوري الليبي في سنة 1981) كانت قد وضعته وأقرّته جمعيـة وطنيّـة
تأسيسية بمساعدة مفوّض خاص ومجلس دولـي عيّـنتهما الأمم
المتحـدة. وتضمّـن الدستـور خلاصـة تجـارب عدد من أكثر دول
العالم عراقة في تاريخ الديمقراطيّـة والعمل بالدسـاتير.
نصّ الدستـور الليبـي،
في مقدّمتـه، على تكوين دولة ديمقراطيّـة مستـقـلّة ذات سيادة،
تؤمّـن الوحدة الوطنيّـة وتصـون الطمأنينة الداخليـة وتكفل
اقامة العـدل وتضمـن مبادئ الحريّـة والمسـاواة والاخاء
وترعى الرقيّ الاقتصادي والاجتماعي والخير العام. كما نصّ في المادة
(40) على أن السيادة للأمّـة، والأمّـة مصدر السلطـات.
وكفل الدستـور الحريّـة الشخصيّـة، وحرمة المسـاكن،
وحرية العقيدة والفكـر، وحريّـة الصحافة والطبـاعة والنشـر،
وحق الاجتماع السـلمي.
ولم يمنع الدستـور انشـاء التنظيمـات السياسيـة على الاطلاق،
وانما حظر تكوين الجمعيـات السـريّة والجمعيـّات التي ترمي الى
تحقيق أهداف سيـاسيـّة بواسطة منظمـات ذات صبغـة عسـكرية. وكان ذلك
أمراً طبيعيّـاً تماماً قصد به المحافظة على استقرار البلاد
وتفـادي تعرّض الليبيّـين لمشـاكل الانقلابات العسكرية
والمؤامـرات والدسائـس السياسيـّة وعواقبها الوخيمـة. فطالما كان نظام
الحكم القائم ديمقراطيّـاً ويكفل للمواطنيـن حقّ تكوين "الجمعيّـات
السلميـّة" بأنواعها، فما الداعي الى ممارسـة أيّ نشاط سياسي في
الخفـاء ؟! .. ان المعارضـة السياسيّـة الواضحة الأهداف لا تضطـرّ
الى العمل السـرّي الا مرغمـة تحت ضغط الارهاب في الأنظمة
الدكتاتوريّـة والفاشيّـة التي تخنـق الحريّـة وتدوس على القوانين
وتفتـك بكل من يرفع صوته برأي غير رأيها الوحيـد !!
وقد تضمّـن الدستـور فصل السلطـات الثلاث : التشريعيـّة، والتنفيذيّـة،
والقضائيـّة. ونصّ على أن يتولّى الرئيس الأعلى للدولة السلطة
التشريعيّـة بالاشتراك مع مجلس الأمّـة، بحيث يصـدر القوانين بعد أن
يقرّها مجلس الأمّـة، كما يتولّى السلطة التنفيذيّـة في حدود
الدستـور. أمّا فيما يتعلّق بالسلطة القضـائيّـة، فقد ضمن
الدستـور أن القضاة مستقلّون ولا سلطان عليهم في قضائهـم
لغير القانون. وأرسـى مبدأ اعتبار المتهم بريئـاً الى أن
تثبت ادانته، بينما لا يجوز القبض على أي انسـان أو توقيفـه أو
حبسـه أو تفتيشـه الا في الأحوال التي ينصّ عليها القانون، ولا يجوز
اطلاقاً تعذيب أحد ولا انزال عقاب مهيـن به. فكيف حالكم الآن ؟!
وحدّد
الدستـور
عدد النـوّاب في مجلس الأمّـة بحيث ينتخبـون من قبل المواطنين
على أساس التمثيل النسبي لمجموع عدد سكان البلاد. ولعلّه من الجدير
بالملاحـظة في هذا الصـدد أن الانقلاب الحاكم حاليّا خارج نطاق
الشرعيّـة والدستـور يرفع شعاراً مريحـاً لأمثـاله، مفاده أن
"التمثيـل تدجيـل". وهو لا يعني التمثيل المسـرحي أو التلفزيـوني،
بطبيعة الحال، وانّما يقصد التمثيل النيـابي بالذات. ولكن
الطريقة الغوغائيـة المسرحيـّة التي يختـار بها "ممثليـه
الخصوصيّـين" فيما أسماه بـ "مؤتمر الشعب العام" لم تفرز الى الآن
أي شخص قادر حتّى على تمثيل نفسه أو أداء دوره الخاص فقط من دون
تعليمات مخرج الانقلاب. فالذي حدث أن معظم هؤلاء الممثـّلين أو
كلهم تحوّلوا الى شبه قطع من خشبة مسرح العبث السياسي في ليبيا.
بل ان أصوات المتفرجين أيضاً لم تعد تُباع وتُـشترى نقدا عن طريق
شبّـاك التذاكر المفتـوح، ولكنها أصبحت تُغتصب عنـوة بالمجّان أو
تخمد بالكامل !!
ومن هنا فان الأغلبيـّة الصامتـة الآن ليس من المتوقّع أن ترفع صوتها
وتجاهر بالعداء لحكم الانقلاب الكريه، مالم ترَ في الأفق بوادر
العودة الحقيقيـّة الى الديمقراطيـة وضمانات الحريّة التي تستحقّ
التضحية في سبيلها وبذل النفس والنّفيس. وبالتالي فان هذه الجماهير
الواسعـة من الشعب الليبي المسحـوق كله ستظلّ غالباً غارقة في صمتها،
وتكتفي بالمقاومة السّلبيّـة وحدها والغضب المكبـوت، الى أن يطرق
سمعها نداء الحقّ الواضح النبرات وتلوح أمامها أعلام النصر
الأكيـد وبشـائر الخلاص النهـائي من عسف الأسـرة الانقلابيـّة
الطاغيـة التي عاثت في البلاد فساداً تحت حراسـة السلطة المسلّحة.
فالمواطن الليبي، بعد أن صقلته تجربة السنوات القاسية التي مضت منذ
مصـرع الديمقـراطيّة على أرضه، أصبح اليوم أكثر وعيـاً وأنضـج
بكثيـر من أن يبدّل انقلاباً بمجـرّد انقلاب مماثل أو يغريه
مظهر أي برق خُـلـّب. فكلنا ندرك الآن جيّدا ما تعنيـه
القبضة الحديدية في القفّاز المخملي !
فما الذي تـرونه الآن ؟
.. وهل هناك من يعتقد حقّا أن الشعب الليبي قد يرفض فكرة الانتخابات
النيابيـّة، مثلا، لمجـرّد أنه في وقت من الأوقات سمع بأن حكومتـه
تمارس التلاعب بالنتائج أو شاهد بعض أفراده يبيعون أصواتهم أو يتبرّعون
بها لصالح المرشّـح الأقـوى ؟ ..وهل يعني ذلك أن المواطـن بات يخشـى
المبادئ الدستـورية ذاتها ويخـاف من الديمقراطيـة؟ .. ان مثل هذا
الاعتقـاد هو، في رأينا، من قبيـل الاستهـانة بذكـاء الليبييـن
عامة وبمقدرة الشعب على الاستفـادة من تجاربـه الماضية والحاضـرة. فعلى
الرغم من الحملة الدعائيـة المركّزة التي يشنـّها دعاة فكر الانقلاب
ضدّ مختلف الأساليب الديمقراطيـة المعروفـة في العالم، ورغم اغلاق جميع
أبواب المعرفة الانسانية في وجـه المواطـن الليبي منذ الانقلاب،
الا أن هذا المواطـن على العموم لم يفقد ثقته الكامنة في ايجابيّـات
المفاهيم الديمقراطيـة الأساسيـّة التي تتمثل في اجراء الانتخـابات
العامـة، والاقتـراع السـرّي، وتشكيل المجـالس
النيابيـّة، الى آخر ذلك. بل ان الليبـيين في الواقع قد ازدادوا
ايماناً بصلابة معدن التجربة الديمقراطيـّة التي جاء بها دستـور
الاستقلال، فهم اليوم يتحسـّرون عليها، وخاصّة بعد أن أخذت سلطة
الانقلاب تعاملهم مثل فئران التجارب في المختبرات العلميـّة ..
فتطلع عليه كل يومين بعيّنة جديدة من "ديمقراطيّـتها" الخاصة
المركّبة في مصنع التجميع المحـلّي ! وكان آخر اختبار لا يزال
جارياً بفشل منقطع النظير في حقل التجارب الليبـي هو ما أسمـاه
الانقلابيّـون بـ "الديمقراطيـّة المباشـرة" .. وكانت هذه بالفعل ضربة
مباشـرة !! فما برحت تزعزع أركان المعمل بأكمله وتحدث هزّاتها
المخـرّبة حتى في المباني المجاورة.
فدعونا من الانقلاب قليلاً،
ودعوه يتخبـّط وحده في خضمّ تجاربـه المميتـة. ولنعد الى الأهمّ
والمُجدي. ونأخذ مثلا مسـألة الاستفتـاء الشـعبي. فعمليـّة
الاستفتـاء من أضمن الوسـائل لتحديد موقف الجماهيـر تجـاه الفكرة أو
القضيّـة المطروحـة للاستفتـاء العام عن طريق معرفـة مدى
الاجماع الشعبـي عليها من جهة ونسبـة الرافضيـن لها من جهة أخرى.
وهكذا فإن الاستفتـاء معيـار صادق ودقيق الى حدّ بعيد في
استطلاع رأي الأغلبيـّة حيال أية مسـألة حيويـة تهم عامّـة
الشعب. ولا مجـال لأيّ طعن في الصفة الديمقراطيـّة للاستفتـاءات
الشعبيـّة، طالما توفّرت لاجرائـها شروط النزاهة من كل جوانبها
مع الرقابة الجادّة.
ولننظر الى النقاط التالية على افتراض أنها حقيقة كاملة أو حتى
نصف صحيحة فقط :
1.
الشعب الليبـي مَـرّ، أثنـاء عهد الاستقـلال، بتجربة تزوير
الانتخابات النيابيـّة والتلاعب بنتائجها والمتاجرة بأصـوات
الناخبين. وقيل له سـرّا أن الحكـومة مخاتـلة بطبعها !..
2.
التقاليد الديمقراطيـّة الناشئـة التي أخذت تتبـلور في مخيّلة
الليبـيين بالتدريج مع بداية نموّ الوعي السيـاسـي عقب استقلال
البلاد راحت ضحيـّة لحكم الانقلاب الغوغائي الفوضوي الذي جعل
شغله الشاغل منذ قيامه القضـاء أولا بأول على جميع مقوّمات الحيـاة
الديمقراطيـّة في ليبيا لكيّ يستبـدّ بالسلطة ويستـعـبد الجميـع.
3.
تحوّلت ليبيا منذ الانقـلاب الى شبـه دولـة فـقط وبوليسيـّة
بالكامل، حتّى قُـدّر عدد عناصر المخابرات فيها بنحـو عشرين
بالمئة (20%) من عدد السكان البالغين !!
فمن يتوقّع من المواطن الليبي المعاصـر (المستريب بطبعه في كل شـئ،
ولا سيّما الحكومة) أن يثـق في سلامة أي اجـراء ديمقراطـي جديد،
مالم يتمّ تحت رقابة مضمونـة الحيـاد والنزاهـة. خالية من
عبث الشـرطة والمخـابرات ؟!.. وما دامت بلادنا الآن تعتبر
مستعمـرة لأسـرة الانقلاب أو شبـه مستعـمرة، على كل حال،
فهل يضير سيـادة الشعب الليبـي – متى حـرّر نفسـه من سيـادة
الانقلاب – أن يطلب بنفسـه حضـور مراقبيـن دوليـّيـن موثـوق بهم
للاشـراف المحـايد على أول وأهمّ خطـوة يتـّخذها على طريق
العودة الى الديمقراطيّـة، وهي اثبـات رأيه الحـرّ في شكل الدولـة
ونظـام الحكم الذي يريـده للبدء في استـقـلاله الجـديـد ؟..
[*]
واذا كان ثمة من يتوهّـم أو يُشيـع أننا نطالب بعـودة
عهد سـابق بكامل دولته وكل رجاله وخيره وشـرّه، دون تمـيـيـز،
فهذا اما واهـم أكثر مما ينبغي أو يـقـصـد التشـكيك في
سلامـة الأهداف، أو أنه معرّض للتضليل المتعـمـّد من جانب
السلطـة الغاصبـة وعملائها بالذات. وذلك أن أي أحمـق
يدعو الى اعـادة الماضـي بحذافيـره، كمن يحـاول دفع عجلة
التاريخ الى الوراء، لابدّ أن يكون أغبـى من الانقـلاب نفسـه
!!
فنحن لا نريد، في الواقع، سـوى عودة الحكم الديمقـراطي والحيـاة
الطبيعيـّة الى ليبيا، انطلاقاً من دستـور البلاد
وبقيـادة رئيـس الدولـة الشـرعي. وبعدها، متى استتبّت
الأمـورمن جديد وهدأت الفتن وأزيلت الأحقاد التي حاول زرعها
الانقلاب، يستطيع الشعب الليبـي بكامله أن يقرر ما يشـاء
كيفمـا شـاء. فان أراد أن يقيم مؤسسـاته الديمقراطيّـة
الجديدة وفقاً لدستـوره القديـم، كان بها. واذا قرّر أن
يُدخل عليه أي تغيير أو تعديل، سـواء من حيث الشكل أو
المضمون، عن طريق استفتـاء عام أو بأي وسيـلة أخرى، تحت
اشـراف أو رقابـة خارجيّـة أو بدونها – فهو وحده صاحب
القول الفصل وله الرأي أولاً وأخيراً. وباختصار شديد، فان ما
نأمله ونسعى اليه وسوف نجاهد في سبيله بكامل ما نملك هو أن
يستعيد شعبنا كامل حريّـته ويمارسـها قولا وفعلاً فوق أرضه
.. فور سقوط الانقلاب ! |
وان دعوتنـا الى عـودة الشـرعية الدستـوريّة ليـس فيهـا لبـس أو غمـوض.
وذلك أن الملك محمد ادريـس المهـدي السنـوسـي هو نفسـه القائـد
الوطنـي العظيـم الذي حمّـله الشعـب الليبـي سيـادة الأمّـة،
بمقتضى الدستـور، وديعة مصـونة لم يفـرّط فيها ولم تُستـلب.
فلقد كان دائـماً ولا يزال خيـر من يحمـل الأمـانة.
ولسـوف تستعيـد لـيبيـا سيـادتهـا الكاملـة
.. وتعـود للشعـب الليبـي وديعتـه بعـودة الملك المظـفّـرة بعـون الله
عمّـا قريب، مُـلبّـياً نداء الوطن الحـرّ وأبنـاء الوطن .
عاشـت لـيـبـيـا - عـاش الـمـلـك
|